بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أيها السيدات والسادة:
الضيوف الكرام والزملاء الأعزاء وأبناءنا الخريجين:
نحمد الله أن من علينا بالأمن والآمان، وبالنصر على قوى الإرهاب والشر والظلام، وبتحرير بنغازي وعودة الاستقرار إليها. وإننا إذ نترحم على أرواح الشهداء، ونهنئ جيشنا البطل بالانتصارات، فإننا ندرك أن معركة البناء وإعادة الإعمار تحتاج إلى الارتهان إلى العلم والمعرفة، وأنها معركتنا، وأنها قد حانت ووجبت.
لقد تأجل موعد إحتفالنا، حين تخرجت الدفعة الأولى، بسبب حرصنا على أمن أبنائنا، حين طالت أيادي الغدر والإرهاب حفل تخريج الثانوية الفنية العسكرية عام 2014م، بمكان ليس بعيداً عنا. والآن، بعد أن أنعم الله علينا بالأمن والآمان، وبتوفيق من الله، وبجهود المخلصين من أسرة هذه الجامعة، ودعم أولياء الأمور، واجتهاد طلابنا، ها نحن اليوم نحتفي بتخريج أبنائنا طلاب الدفعات الثلاث الأولى من كليات الطب البشري، وطب وجراحة الفم والأسنان، والصيدلة، والعلوم الطبية الأساسية، وكلية تكنولوجيا المعلومات، هؤلاء الذين تعلموا وفق برنامج رصين ومستوى عالٍ، يفضي إلى تحقيق النجاح والتفوق المهني. وإننا نعتز ونفاخر بهم في هذا اليوم البهيج والمناسبة الرائعة، ونواجه بهم المرض والجهل والتخلف. إنهم، وبشهادة من قام بتدريسهم، أو أشرف على تقييمهم، الأفضل كفاءة وحرفية. هذا الحدث المهم سيسجل في تاريخ التعليم الطبي في ليبيا. وكما وعدناكم، يوم أن احتفينا بافتتاح الجامعة منذ عشر سنوات مضت، ها قد وفينا بوعدنا، وبتوفيق من الله ها قد تحقق الحلم الذي كنا نراه ممكناً، ورآه الآخرون مستحيلاً.
هذه الجامعة الفتية، وفي زمن قياسي، تمكنت من تحقيق التراتيب الأولى ليبياً في التصنيف العالمي للجامعات، وبدأت في تحقيق رؤاها مبكراً. قفزنا بها على الواقع السيئ، وفي ظروف صعبة. نجحت الجامعة بروح الفريق وجماعية العمل، وبتفعيل نظام الجودة الشاملة في إدارتها. ولأنها اجتهدت وبدأت من حيث وقف الآخرون، والتزمت بمبادئ وقيم شرف وأخلاقيات المهنة، ومعايير منظمة التعليم الطبي الدولية، وتوجهات منظمة الصحة العالمية، في الأساس المجتمعي للتعليم، والالتزام بخدمة المجتمع المحلي، والتفاعل مع احتياجاته، واستمرار المبادرة والاندماج.
بنيناها من العدم، وبلا سند. لم يدفعنا لها أحد، ولم يدافع عنا أحد. اعتمدنا على الله وعلى أنفسنا، بإرادة وعزيمة نابعة من حبنا للوطن واحترامنا لمهنتنا وتقديرنا لأبنائنا وثقتنا في عقولهم. تأسست هذه الجامعة لتكون نموذجاً للتغيير إلى الأفضل، والبناء والنماء واللحاق بركب التطور والتقدم، وبدأت لتبقى منارة للعلم، ومركزاً متقدماً للبحث والتطوير وخدمة المجتمع والحمد لله.
ولدت هذه الجامعة من رحم مدينة بنغازي الموسومة بالريادية والإبداع، بمبادرة شجاعة من نخبة من الأساتذة والخبراء، الذين افتخر بهم، وأسعد بكوني أتحدث اليوم باسمهم. ساهموا بمدخراتهم وأموالهم في سبيل تحقيق هذا الواجب الوطني. منهم من أقعده المرض، وأبعده عن الاستمرار في المساهمة بجهده معنا، \”أ.د. أبوبكر بشير\” شفاه الله ورعاه، ولا نغفل عمن شارك في التدريس معنا، وأبعده الموت عنا \”أ.د عاصم أحمد عبد العظيم وأ.د خالد سعيد محفوظ وأ.د. أحمد العائش، ولا ننسى من فقدناه مبكراً، الطالب عبد الله عثمان العوشار، في حادث أليم، راجعاً من جامعته مجداً وحريصاً على طلب العلم، والطالب فرج فتحي الجهاني الذي طالته أيادي الغدر والارهاب في بيته وهو يراجع دروسه استعدادا للامتحانات، نستمطر اليوم شأبيب الرحمة عليهم وندعوا الله عز وجل أن يدخلهم في فسيح جنانه.
نقف اليوم داعين الله عز وجل أن يجزل العطاء للكثير من الأسماء والشخصيات ممن ساهموا في تأسيس الجامعة، أو شاركوا في دعمها وبعضهم بيننا اليوم، وأن يزيد في عطائهم، ويطيل في أعمارهم، ويعوضهم عن ما بذلوه كل خير.
يحق لنا اليوم أن نبتهج.: هؤلاء أبناؤنا ممن اختاروا أن يركنوا إلى جودة أفضل, التحقوا بنا، ووثقوا فينا، حينما كانت مبادرتنا بإنشاء هذه الجامعة تعد لدى البعض المُشكك مجازفة، أو قفزاٌ في الظلام، وها هم أبناؤنا قد تحصلوا على فرصة أفضل وتعليم أرقى، لا يقل عن مستويات التعليم في جامعات عريقة وفي دول متقدمة وبتكلفة أرخص، أثبتنا أنها اسم على مسمى، بمعايير دولية وريادية وطنية، وأثبتنا أن الليبيين قادرون على صنع التقدم، إذا ما أطلق لهم العنان، وأتيحت لهم الفرص. وإذا كان التعليم الطبي هو الأكثر تعقيداً والأغلى تكلفة، فإن مبادرتنا هذه، وبهذا النجاح، وبهذا السقف، وفي هذه الظروف، مدعاة للفخر، ومناسبة للفرح، وسبيل لفتح المجال للنهوض بالتعليم في ليبيا كلها. إن برامج الجامعة التعليمية المخطط لها والمصممة وفقاً للمعايير الدولية منفذة بمهنية ودقة علمية وبتوثيق كامل، وتتم مراقبتها ومتابعتها من الجميع، بمن فيهم الأساتذة والطلاب، ويتم تطويرها وتحسينها بشكل مستمر.
الفرح يغمرنا، والموقف يهز أعماقنا، وتنتشي نفوسنا بهذا الإنجاز والنجاح. هنيئاً لمن ساهم وشارك فيه. إنها والله للحظة عمر، وموقف نصر، وتاريخ يسجل، وجسر إلى ليبيا التي نصبو إليها يُعبر، ولن تكون حياتنا بعده كما كانت قبله إن شاء الله، والحمد والشكر لله.
ينسب الفضل لأهل الفضل، فقد كان موقف إدارة مصرف الوحدة بمنح القرض، بدون ضمانات أو عقارات تُرهن، سبباً مباشراً في تحقيق هذا الحلم. والشكر موصول إلى الشركة العامة للمنسوجات، وهيأة تشجيع الاستثمار، وإلى كل من ساندنا، ووقف معنا وآزرنا، ولو بكلمة، كما يجدر بنا الإشادة بالقضاء العادل الذي كان قد أنصفنا في مرات عديدة، لجأنا فيها إليه، من ظلم وفساد أو استهداف، شكراً للقضاء العادل المستقل.
يتساءل البعض: كيف تحقق هذا النجاح؟ ونجيبهم: لأننا عملنا بجد ومثابرة، بعيداً عن هيمنة الدولة وبيروقراطيتها ومركزيتها، ولأننا قد امتلكنا القدرة علي التنفيذ، دون قيود وعراقيل، ولمسنا حماساً للتحصيل ومواظبة واهتماماً من طلابنا، ولأننا جمعنا فريق عمل كفأً ومميزاً، فقد وظفت الجامعة منذ بداياتها (226) موظفاً وفنياً، و(509) عضو هيأة تدريس، من وطنيين مخلصين وأكفاء، وآخرين قدموا سابقاً من مصر والعراق والسودان والهند وسوريا وأمريكا وكندا والنرويج وفلسطين والفلبين والبرازيل وبريطانيا.
غمرتنا رغبة المنافسة وروح التحدي منذ البداية، فتلك الروح كانت لنا حافزاً ووقوداً لمواصلة المسيرة ومواصلة الليل بالنهار، كما كنا قد استفدنا من التواصل مع عدد من الجامعات الدولية، ومن مناسبات الاحتكاك الدولي التي صنعناها، وبإمكانات محدودة، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والجامعات الأوروبية، وبمنح قدموها لنا في مشاريع أكاديمية، لم تماثلها أي منح داخلية أو وطنية. ومن المؤسف أن بلادنا لم تساندنا أو تعاضدنا، على الرغم من أننا كنا نشاركها إمكاناتنا، وتحملنا معها الأعباء والمسؤوليات، تماماً كالجامعات الحكومية الممولة من الخزانة العامة، وأضفنا عليها دفع رسوم وضرائب واشتراكات ضمانية ومساهمات في الاقتصاد المحلي بمكافآت وأجور ومصروفات، بقيم تتجاوز أحيانا النصف مليون دينار شهرياً، كانت الجامعة تضخها في شرايين اقتصادنا المحلي.
نذكر في هذا المقام أن هذا النجاح للجامعة الليبية الدولية للعلوم الطبية يعني الكثير من المعاني والأهداف الوطنية، نذكر منها:
توطين المعارف الحديثة، والنجاح في خلق رأسمال معرفي جديد، بعيداً عن ريعية الدولة، وبإضافة مصادر تمويل جديدة، لا تعتمد على الخزانة العامة والمال العام، وبداية النجاح في إدارة المعرفة، والمباشرة في برامج بحثية حثيثة، ينفذها الطلاب ولأول مرة وبكفاءة بالغة، ينشر من خلالها طلابنا الجامعيون أبحاثاً علمية رصينة، في مجلاّت دولية محكمة، في ظاهرة غير مسبوقة محلياً ودولياً، وتميز إقليمي في نظام التعلم الذاتي والمستمر، ومواكبة التطور ومتطلبات العصر والبعد عن التلقين والتحفيظ، والتميز بممارسة إستراتيجية التعلم الذاتي بواسطة المعضلات. وحين يتكرر لدى غيرنا طرح المشاكل التعليمية المتضخمة، فإننا نطرح الحلول الناجعة، ونعلن امتلاكنا خبرة تعليمية، تنبذ التلقين والتحفيظ، وتعتمد التعلم النشط، وأننا بذا نسهم في توطين المعرفة.
لم تكن المهمة سهلة، وواجهنا العديد من الصعاب والتحديات، عانينا من الإمكانات الشحيحة والتي لم تتوافق والطموحات التي كانت لدينا، وواجهنا تكاليف إيقاف الدراسة لفصل دراسي كامل زمن الثورة، وعام دراسي أثناء معركة الكرامة، لم نخضع لتلك الظروف، حيث نقلنا خلالها العملية التعليمية إلى جامعة قناة السويس بجمهورية مصر العربية، وبعدها إلى مقرات مؤقتة في مناطق بنغازي المحررة، وتحملنا كأسرة واحدة مع كل العاملين تبعات ذلك، من إعادة إعمار لمقر الجامعة، وإيقاف للمرتبات، وتقليص للمصروفات الغير تعليمية. كنا وما زلنا نعاني من النظرة السلبية والثقافة السائدة المعادية للقطاع الخاص، التي تصور ظلما أن ممارسة العمل الخاص شبهة، ومقصده استغلال، وهدفه ربح، وأسلوبه جشع. وتزداد النظرة سوءاً نظراً لارتفاع تكلفة ونفقات التعليم الطبي، ولأنه بدعة في دولة غنية، حُرم شعبها من ثروته، والتعليم فيها استمر لعقود طويلة حقاً مكتسباً ومجانياً، حرم طلابنا حتى من حقهم في المساواة مع غيرهم في منحة أو مشاركة في منافسة، إضافة إلى إرهاق أولياء الأمور بتكاليف الدراسة، وعدم تبني أسلوب الإقراض الطلابي، الذي نادينا به، أو إعطاء المنح الدراسية المستحقة لهم.
لا ننكر أننا عانينا من تدهور مستوى خدمات المرافق الصحية والمستشفيات العامة في سير العملية التدريبية. عانينا من ازدواجية المعايير، فإلى جانب صغر المقر المتاح لنا، قوبلنا بإحجام الدولة عن منحنا قطعة الأرض المناسبة للتوسع، واستيعاب زيادة الطلب والأعباء، ولذا استمر استنزاف الموارد البسيطة المتاحة لنا في دفع الإيجار، وأرهقت الميزانية المثقلة أصلاً بتوفير أحسن الخدمات التعليمية، بأقساط القرض المصرفي. وهكذا لم يكن الأمر بالسهل واليسير.
سيثبت هؤلاء الذين اجتمعنا من أجلهم اليوم، المحتفى بهم، والذين لم يكلفوا هذه الدولة شيئاً، أنهم ليسوا كما اعتادوا. هؤلاء سيغيرون واقع الخدمات الصحية السيئة، وسيحدثون، بعلمهم ومهاراتهم وكفاءاتهم، بداية التغيير، والقادم أفضل إن شاء الله.
وبذكرنا ذلك فإننا نحمل خريجينا مسؤولية العمل بما عَلِموا، والالتزام بأخلاق المهنة، والتفاني والحرص في أداء واجباتهم، واحترام حقوق مرضاهم، وواجب الحرص على التعلم المستمر، وحفظ الوطن في قلوبهم، ومراعاة الله في أعمالهم، وما التوفيق إلا بالله.
لن تنكر الوقائع ولن يغفل التاريخ ما قامت به الجامعة، حين شاركت بإمكاناتها مؤسسات المجتمع المدني منذ إنشائها، من أجل أن تكون ليبيا أفضل. واليوم يسعدنا أن نحتفي في هذه المناسبة السعيدة بأول وأنجح مؤسسات المجتمع المدني والعمل الأهلي في هذه المدينة الفاضلة \”جمعية الكفيف ببنغازي\” وبرجالات ورواد هذا العمل النبيل، الذين يمثلهم معنا الأستاذ المحترم محمد علي سعود\”، هؤلاء الرواد الذين مثلوا رمزاً رائعاً في الإخلاص لله والوطن والإرادة التي تقهر المستحيل، نستمد منهم العزم والإرادة ونجعل منهم القدوة والمثل الذي يجب أن يحتذى، جزآهم الله عنا كل خير ومنحهم الصحة والعافية.
اليوم تتلاشي كل هذه المتاعب والمصاعب والأحزان والتحديات، وننتشي بفرحة النجاح والتخرج لأبنائنا، نفرح بهم، ويتجدد الأمل معهم. نحتفي اليوم بك يا ليبيا، ونضيف لك ذخراً ومكنة، حين يتسابق الآخرون لكسب الغنائم من المال العام والوظائف العامة، ونضرب مثلاً في نجاح القطاع الخاص، ونبين أن التوجه الحقيقي لبناء ليبيا يكمن في ازدهار التعليم، والاهتمام بالتنمية البشرية، والاستثمار في أهم ثروات ليبيا \”عقول أبنائها\”، بعيداً عن التعصب والتطرف والمغالاة والمزايدات. وإننا نأخذ على أنفسنا عهداً ألا نخذل أو نهون الوطن، الذي ضحى من أجله الآباء والأجداد ومن بعدهم الأبناء والأحفاد، وما قدمناه وما نفعله سيكون أفضل مكافأة لأولئك الأبطال والشهداء، الذين قدموا أرواحهم في سبيل هذا الوطن المعطاء، تقبلهم الله بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جنانه.
نأمل أن تكون هذه الجامعة لنا -إن شاء الله- وكما قال الصادق الأمين سيد الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام: \”صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وأبناء وخريجون لا تنقطع دعواهم بالخير لنا ولمن علمهم وساهم في تفوقهم\” .
الموقف بوحيه ينطق بحجم هذا الفرح ورغما عن كل الصعاب فيقول:
إنا فعلناها…….
إنّا فعلناها! رغماً على الظُِّلم كم قد تحدينا في السّرّ والعلنِ!
ها قد تحّقق ما عشناه من حُلِّم بالعزم قمنا بها، والعزم لم يلنِ
فعل يجدّده….. أملٌ مع ألمِ لكنه أبدا….. لم يخبُ أو يهُن!
للعلم من عرب- يلقاه – أو عجم صرحا يشيد به من ليس بالقرن
أهلا بني وطني، صدقتموا كلمي فخراً.. سبقت بكم دنيا بلا زمن!
حققتم ذاتاً ، أبنائي ، بالعِلم كم قد قسونا بكم لنفوز بالرّهنِ!
ها قد تبسّم لكم للغد من نجم بالجدّ جاوبتم لمشككٍ لسِن
أبناؤنا الأحباب بالعلم والفهمِ اجتازوا بتوفيقٍ درباً من المحن
ليبيا تعزّ بكم شرفاً على الأمم من بعد طول الأسى، لتعيش يا وطني!
سينزاح عنك الدجى بفضل ذي النّعم ومَنْ يلوذ به في كربةٍ يُعَنِ!
فضلاً يا ذا الجلال..مكّن لنا بالقلم وبهدي (اقرأ)، إن قلت: (كن) نكن!!
ألف مبروك وتهانينا بالنجاح
حفظكم الله وحفظ الله بنغازي وليبيا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. محمد سعد أمبارك
رئيس الجامعة الليبية الدولية للعلوم الطبية
بنغازي اكتوبر 2017م